responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير المؤلف : الرازي، فخر الدين    الجزء : 16  صفحة : 69
أَسِيئِي بِنَا أَوْ أَحْسِنِي لَا مَلُومَةً ... لَدَيْنَا وَلَا مَقْلِيَّةٌ إِنْ تَقَلَّتِ
وَقَوْلُهُ: طَوْعاً أَوْ كَرْهاً يُرِيدُ طَائِعِينَ أَوْ كَارِهِينَ. وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: طَائِعِينَ مِنْ غَيْرِ إِلْزَامٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَوْ مُكْرَهِينَ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَسَمَّى الْإِلْزَامَ إِكْرَاهًا لِأَنَّهُمْ مُنَافِقُونَ، فَكَانَ إِلْزَامُ اللَّهِ إِيَّاهُمُ الْإِنْفَاقَ شَاقًّا عَلَيْهِمْ كَالْإِكْرَاهِ، وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: طَائِعِينَ مِنْ غَيْرِ إِكْرَاهٍ مِنْ رُؤَسَائِكُمْ، لِأَنَّ رُؤَسَاءَ أَهْلِ النِّفَاقِ كَانُوا يَحْمِلُونَ الِاتِّبَاعَ عَلَى الْإِنْفَاقِ لِمَا يَرَوْنَ مِنَ الْمَصْلَحَةِ فِيهِ أَوْ مُكْرَهِينَ مِنْ جِهَتِهِمْ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَتَقَبَّلُ تِلْكَ الْأَمْوَالَ مِنْهُمْ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهَا لَا تَصِيرُ مَقْبُولَةً عِنْدَ اللَّهِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ عَدَمَ الْقَبُولِ مُعَلَّلٌ بِكَوْنِهِمْ فَاسِقِينَ. قَالَ الْجُبَّائِيُّ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْفِسْقَ يُحْبِطُ الطَّاعَاتِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ نَفَقَتَهُمْ لَا تُقْبَلُ الْبَتَّةَ، وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِكَوْنِهِمْ فَاسِقِينَ، وَمَعْنَى التَّقَبُّلِ هُوَ الثَّوَابُ وَالْمَدْحُ، وَإِذَا لَمْ يُتَقَبَّلْ ذَلِكَ كَانَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا ثَوَابَ وَلَا مَدْحَ، فَلَمَّا عَلَّلَ ذَلِكَ بِالْفِسْقِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْفِسْقَ يُؤَثِّرُ فِي إِزَالَةِ هَذَا الْمَعْنَى، ثُمَّ إِنَّ الْجُبَّائِيَّ أَكَّدَ ذَلِكَ بِدَلِيلِهِمُ الْمَشْهُورِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ أَنَّ الْفِسْقَ يُوجِبُ الذَّمَّ وَالْعِقَابَ الدَّائِمَيْنِ، وَالطَّاعَةَ تُوجِبُ الْمَدْحَ وَالثَّوَابَ الدَّائِمَيْنِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُحَالٌ.
فَكَانَ الْجَمْعُ بَيْنَ حُصُولِ اسْتِحْقَاقِهِمَا مُحَالًا.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ كَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ لا يذكر هذا الاستدلال بعد ما أَزَالَ اللَّهُ هَذِهِ الشُّبْهَةَ عَلَى أَبْلَغِ الْوُجُوهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ فَبَيَّنَ تَعَالَى/ بِصَرِيحِ هَذَا اللَّفْظِ أَنَّهُ لَا مُؤَثِّرَ فِي مَنْعِ قَبُولِ هَذِهِ الْأَعْمَالِ إِلَّا الْكُفْرُ، وَعِنْدَ هَذَا يَصِيرُ هَذَا الْكَلَامُ مِنْ أَوْضَحِ الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّ الْفِسْقَ لَا يُحْبِطُ الطَّاعَاتِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ فَكَأَنَّهُ سَأَلَ سَائِلٌ وَقَالَ: هَذَا الْحُكْمُ مُعَلَّلٌ بِعُمُومِ كَوْنِ تِلْكَ الْأَعْمَالِ فِسْقًا، أَوْ بِخُصُوصِ كَوْنِ تِلْكَ الْأَعْمَالِ مَوْصُوفَةً بِذَلِكَ الْفِسْقِ؟ فَبَيَّنَ تَعَالَى بِهِ مَا أَزَالَ هَذِهِ الشُّبْهَةَ، وَهُوَ أَنَّ عَدَمَ الْقَبُولِ غَيْرُ مُعَلَّلٍ بِعُمُومِ كَوْنِهِ فِسْقًا، بَلْ بِخُصُوصِ وَصْفِهِ وَهُوَ كَوْنُ ذَلِكَ الْفِسْقِ كُفْرًا.
فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ باطل.

[سورة التوبة (9) : آية 54]
وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارِهُونَ (54)
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: دَلَّ صَرِيحُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِلْفِسْقِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ فِسْقٌ فِي هَذَا الْمَنْعِ، وَذَلِكَ صَرِيحٌ فِي بُطْلَانِ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ عَلَى ما لحصناه وَبَيَّنَّاهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ظَاهِرُ اللَّفْظِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْعَ الْقَبُولِ بِمَجْمُوعِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ، وَهِيَ الْكُفْرُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَعَدَمُ الْإِتْيَانِ بِالصَّلَاةِ إِلَّا عَلَى وَجْهِ الْكَسَلِ، وَالْإِنْفَاقُ عَلَى سَبِيلِ الْكَرَاهِيَةِ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْكُفْرُ بِاللَّهِ سَبَبٌ مُسْتَقِلٌّ فِي الْمَنْعِ مِنَ الْقَبُولِ، وَعِنْدَ حُصُولِ السَّبَبِ الْمُسْتَقِلِّ لَا يَبْقَى لِغَيْرِهِ أَثَرٌ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ إِسْنَادُ هَذَا الْحُكَمِ إِلَى السَّبَبَيْنِ الْبَاقِيَيْنِ؟

اسم الکتاب : تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير المؤلف : الرازي، فخر الدين    الجزء : 16  صفحة : 69
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست